تدفئة المباني بالطاقة الشمسية المخزنة في الرمال / البطاريات الرملية

يُعدّ الاحتباسُ الحراريّ والتغير المناخيّ أحد أهم المشاكل التي تواجه الأرض، ويرتبط التغيّر المناخيّ بشكل مباشر بفعل الأنشطة البشريّة بعد الثورة الصناعيّة، ويعد حرق الوقود الإحفوري أحدّ أهم الأسباب لهذا التغيّر المناخيّ. يُساهم قطاع إمدادات الطاقة (الكهرباء والتّدفئة وغيرها) بالقدر الأكبر من انبعاثات الغازات الدّفيئة على الصّعيد العالميّ، حيث يتسبّب في 35% من إجمالي تلك الانبعاثات، وتستهلك الأسرُ 29% من الطاقة العالميّة وتتسبّب في 21% من انبعاثات ثاني أكسيّد الكربون، وتُستخدم معظم الطاقة في المنازل لأغراض التدفئة والتبريد. من الواضح أنّ جزءاً كبيراً من حرق الوقود الإحفوري يُخصّص للتدفئة في فصل الشتاء. لذلك، عندما نرفع درجة الحرارة في منازلنا وأماكن عملنا، يجب أن نوازن بين حاجتنا الشّخصيّة للدّفء والتّأثير العالمي لحرق الوقود الأحفوري مثل النّفط والغاز والفحم والكتلة الحيويّة.
تعمل شركة Polar Night Energy(PNE) الفنلنديّة على تطوير نظام تدفئة في مدينة تامبيري Tampere الفنلنديّة يمكنه تدفئة المبانيّ باستخدام الطاقة الشّمسيّة المُخزّنة في الرمال. تُقدِّم شركة PNE حلولاً هندسيّةً بسيطةً وغيرَ مكلّفة، فنظام تخزين وتوزيع الحرارة في شركة PNE يتكون من قنوات بسيطة ومضخّات وصمامات ورمال، ويُظهر النّظام الجديد إمكانيّة معالجة المشكلات العالمية بطريقة مدروسة ومتوافقة مع قدرات الإنسان.

فكّرْ عالمياً واعملْ محلياً
لا توجد مشكّلة في القرن الحاديّ والعشرين أكبر من مُشكّلة التغيّر المناخيّ. لمواجهة هذا التحدي، تستثمر العديد من الحكومات والمنظّمات في التّكنولوجيا الجديدة لتقليل استخدام الوقود الأحفوري. ركّزت معظم هذه المبادرات على توليد الطاقة الكهربائيّة المُتجددة وتوزيعها وتخزينها. يعتقد الناس أن الطّاقة النظيفة هي الكهرباء ويغفل معظمهم عن الانبعاثات الغازية الناتجة أثناء توليدها، ففي بلد مثل فِنلندا 82% من الانبعاثات المتعلقة بالطاقة تأتي من التّدفئة المنزليّة. يقول تومي إيرونين Tommi Eronen الرّئيس التنفيذيّ لشركة PNE : إذا أردنا أن يكونَ لدينا أملٌ في تحقيق أهدافنا المناخيّة العالميّة يجب استبدال كلَّ ذلك [1].
فكّرْ عالمياً واعملْ محلياً ( think globally and act locally) شعار ارتبط بفترة الستينيات، وتمّ احياؤه مع فريق شركة PNE. بدأت رحلة بناء الشَّركة من سؤال طرحه مؤسِسّاها Tommi Eronen وMarkku Ylönen عندما كانا في الجامعة: “هل من الممكن بناء مجتمع مكتّفٍ ذاتياً من حيث الطّاقة وغير مُكلف باستخدام الطّاقة الشّمسيّة؟”، وبعد التخرج أطلقوا على مشروعهم اسم “Hippie Commune” مع Eronen كرئيس تنفيذيّ و Ylönen كمدير فنيّ، وأصبح اسم المشروع فيما بعد PNE. تمّ في البداية إنشاء محطّة تجريبية بقدرة 3 ميجاوات/ 100 كيلو وات في مدينة تامبيري الفنلنديّة والتي بدأت العمل في شتاء 2020-2021. يَستخدم النظام الكهرباء لتسخين الهواء، ومن ثم يتم ادخاله إلى مبادل حراري يقوم بتسخين المياه وتوزيعها على العديد من المباني (الشكل 1).

يعمل التيّار الكهربائيّ الناتج عن ألواح الطاقة الشّمسيّة على إثارة مقاومة كهربائيّة والتي تعمل بدورها على تسخين الهواء إلى أكثر من 600 درجة مئويّة. يتمّ تدوير الهواء الساخن عبر شبكة من الأنابيب داخل وعاء تخزين حراريّ مملوء بالرّمل، ومن ثم يتدفّق الهواء الساخن مرّة أخرى من الوعاء الرمليّ إلى مبادل حراري يقوم بتسخين المياه التي يتم تدويرها خلال أنظمة التّدفئة في المبنى. تضمن سعة التخزين الحراريّة للرمال بقاء الهواء ساخناً بدرجة كافية للمحافظة على المبانيّ دافئة مهما كانت برودة الطقس. يتكوّن النظام كما هو مُبيّن في الشكل من أنابيب وصمامات ومروحة وعنصر التّسخين الكهربائيّ، لا يوجد شيء مميز.

البطارية الحرارية الرملية
يَقول المهندس الكيميائيّ الشّهير دونالد سادواي Donald Sadoway: إذا أردت صناعة بطاريّة رخيصة الثّمن، فعليك إخراجها من الأوساخ (If you want to make a dirt-cheap battery, you have to make it out of dirt). يواجه نظام PNE نفس التحديات الأساسيّة مثل أي بنيّة تحتيّة أخرى للطّاقة. يجب أن توفر الطاقة للناس عندما يحتاجون إليها وحيث يحتاجون إليها، وبسعر معقول. هذا يعني أن تخزين الطاقة وتوزيعها لا يقل أهميّة عن توليدها. تدعم الشّبكة الكهربائيّة التوزيع الفعّال للطاقة ويُستفاد من الطاقة المولّدة من خلال الوسائل المتجدّدة مثل الرياح والطاقة الشمسيّة. لكن الطبيعة المتقطّعة وغير المستقرّة لضوء النهار والرياح القويّة تُعد مشكّلة مستعصية. إذن هناك حاجة إلى تخزين الطاقة للحفاظ على إنتاج ثابت ومستقرّ. فبالرغم من التطوّر في تكنولوجيا صناعة البطاريّات، لا يزال تخزين الطاقة الكهربائية مكلفاً نسبياً وخاصّةً المستخدم في مجال التدفئة.
هل يمكن تصنيع بطّارية لتخزين الحرارة بدلاً من تخزين الكهرباء؟
تقوم العديد من أنظمة التدفئة التقليديّة بتخزين وتوزيع الحرارة عن طريق الاحتفاظ بالمياه الدافئة وتوزيعها، ويمكن إضافة قدر كبير من الحرّارة إلى الماء قبل أن يتحول إلى بخار، ويمكن للبخار أن يوزّع الحرارة بكفاءة ولكنه ليس فعّالاً من حيث التّكلفة والتّخزين. لتجنّب عيوب تخزين الحرارة في الماء، تم التحوّل بدلاً من ذلك إلى الرّمل، ففي النظام الجديد يتم استخدام 42 طناً من الرّمل، تُخزن الحرارة فيه بالنهار ويتم إطلاقها بعد غروب الشمس تدريجياً في الهواء المتدفق. هذا ويُحافظ الهواء السّاخن بدرجة كافية على درجات حرّارة ثابتة في الماء المُتدفّق عبر مُشعّات الزبائن. وبهذه الطريقة تستطيع الرّمال تدفئة الناس عبر الطّاقة الشمسيّة مهما كان الجو بارداً. وتوفر الرمال أربعة أضعاف سعة تخزين الطاقة بالمقارنة مع المياه، وهي فعّالة وغير سامّة وقابلة للحمل ورخيصة! (انظر [2]).

بناء نموذج حاسوبي
في المشاريع الضّخمة وذات التكلفة العالية، من غير المُجديّ البدء في تنفيذ المشروع قبل القيام بعمليّة النّمذجة والمحاكاة التي تعطي تصوراً أولياً عن صلاحية التّصميم وفاعليّته وجدواه الإقتصادية.
إنّ إمداد منطقة تضمّ 35 ألف شخص بالحرارة يتطلب تخزين الرّمل في أسطوانة يبلغ ارتفاعها 25 متراً وقطرها 40 متراً. ليس من الصّعب على فريق شركة PNE حساب هذه الأبعاد، ومن السهل أيضاً حساب الكمّية التّقريبية للمواد المطلوبة، لأنّ مقدار الحرارة التي يمّكن تخزينها في متر مُكعّب من الرّمل معروف مسبّقاً. لكنّ تحديد المساحة المطلوبة لنقّل الحرارة بكفاءة بين الرّمال ونظام تدوير الهواء هي مسألة أصعب بكثير وتحتاج تحليلاً ودراسةً أعمق. لذلك تم استخدام برنامج النمذجة والمحاكاة COMSOL Multiphysics لنمذجة وتقييم خيارات التّصميم المُختلفة [3]. ساعد برنامج المحاكاة في تصميم المبادل الحراريّ الشّكل(2)، حيث استطاع النّموذج الأوّلي استكشاف فكرة التصميم، وقدّم إجابات حول إنشاء نواة فائقة الحرارة من الرّمال محاطة بقنوات تسخين. فمن خلال نمذجة تأثيرات تدفّق السّوائل ونقل الحرارة في البرنامج COMSOL تمكّن فريق PNE من تحديد المزايا والعيوب النّسبيّة للتّصميم، وبيّنت المحاكاةُ قدرةَ النّواة الكبيرة على تخزين الحرارة لفترات زمنية طويلة جداً، وأعطت تصوّراً واضحاً عن كيفيّة توزيع مجاري الهواء السّاخن في جميع أنحاء وعاء تخزين الرمال.

الشكل (2)

إنّ الحجم الهائل لنظام تخزين الحرارة القائم على الرمال، يجعل المحاكاة لا غنى عنها. إذ لا يمكننا واقعيّاً بناء نماذج أوليّة بالحجم الكامل لاختبار جميع الأفكار، لأنّ حجم التّكلفة والخسارة قد يكونّ كبيراً فيما لو فشل التصميم الأوليّ. لذلك احتاج الفريق إلى نمذجة تنبّؤيّة للإجابة على أكبر عدد ممكن من الأسئلة قبل أن يقوم بشراء المعدّات وجمع هذا الكم الكبير من الرّمال.

القدرة على التكيّف
من خلال فصل مهمّة تخزين الحرارة عن توليدها وتوزيعها، جعلت PNE نظامها أكثر كفاءة وقدرة على التكيّف. هناك إمكانيّة للاستفادة من البنى التحتيّة الموجودة مسبّقاً لتعديل أنظمة تخزين ونقل الحرارة. تامبيري، مدينة صناعيّة فنلنديّة يسكّنها ما يقرب من 250000 شخص، هي أرض اختبار مثاليّة لهذه التّكنولوجيا الجديدة. تامبيري مثل العديد من المدن الأوروبيّة، لديها نظام تدفئة محلي يوزّع المياه عبر أحياء بأكملها، وهذا يساعد على تحويل العديد من المبانيّ إلى نظام حراريّ متجدّد بسرعة أكبر. يُمكن أيضاً للمحطة التّجريبيّة لشركة PNE الاستفادة من طاقة الشّبكة الكهربائيّة المحليّة جنباً إلى جنب مع الكهرباء المولّدة من الألواح الشمسية أو من الطاقة الريحيّة. يُمكّن التخزين الحراريّ المدينة من توليد الطاقة وتوزيعها لتُصبح في متناول الجميع.

خاتمة
منذ بدء تشغيل نظام تامبيري خلال شتاء 2020-2021، كان فريق PNE يجمع البيانات لمقارنتها بنماذجهم. لقدّ أثبتت عمليات المحاكاة أنها دقيقة للغايّة ومشجّعة لاستمرار فريق PNE في تطوير أفكاره محليّاً وعالمياً. يُساعد التخزين الحراري رخيص التّكلفة الصّناعات والمدن على الاستفادة من الحرارة المهدروة، بالإضافة إلى الموازنة بين إنتاج طاقة الرياح والطاقّة الشّمسيّة. يجب الابتعاد عن جميع أنواع الاحتراق حتى الكتلة الحيويّة، فنحن بحاجة إلى حماية واستعادة الغابات حتّى تتمكنّ من الاستمرار في إزالة الكربون من الهواء. نظراً لأن تغيّر المناخ يحدث بسرعة كبيرة فيجب أن ينتشر هذا النّوع من المشاريع بسرعة أكبر.
= = = = =
*الدكتور المهندس محمد ملحم – أستاذ مساعد في كلية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات – جامعة طرطوس.

مصدر:تدفئة المباني بالطاقة الشمسية المخزنة في الرمال / البطاريات الرملية – مركز JSM (jsmcenter.org)